فصل: حكمة التحريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.لبن المرضعة يحرم مطلقا:

التغذية بلبن المرضعة محرم، سواء أكان شربا أو وجورا أو سعوطا، حيث كان يغذي الصبي ويسد جوعه، ويبلغ قدر رضعة، لأنه يحصل به ما يحصل بالأرضاع من انبات اللحم، وانشاز العظم، فيساويه في التحريم.
اللبن المختلط لبن المرأة بطعام، أو شراب، أو دواء، أو لبن شاة أو غيره، وتناوله الرضيع فان كان الغالب لبن المرأة حرم، وان لم يكن غالبا فلا يثبت به التحريم.
وهذا مذهب الأحناف، والمزني، وأبي ثور قال ابن القاسم من المالكية: إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره، ثم سقيه الطفل لم تقع به الحرمة.
ويرى الشافعي، وابن حبيب، ومطرف، وابن الماجشون من أصحاب مالك: انه تقع به الحرمة بمنزلة مالو انفرد اللبن، أو كان مختلطا لم تذهب عينه.
قال ابن رشد.
وسبب اختلافهم: هل يبقى للتبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره، أم لا يبقى به حكمها؟ كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر.
والاصل المعتبر في ذلك انطلاق اسم اللبن عليه كالماء، هل يطهر إذا خالطه شيء من الطاهر؟.
صفة المرضعة: والمرضعة التي يثبت بلبنها التحريم، هي كل امرأة در اللبن من ثدييها، سواء أكانت بالغة أم غير بالغة، وسواء أكانت يائسة من المحيض أم غير يائسة، وسواء أكان لها زوج أم لم يكن.
وسواء أكانت حاملا أم غير حامل.

.سن الرضاع:

الرضاع المحرم للزواج ما كان في الحولين.
وهي المدة التي بينها الله تعالى وحددها في قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}.
لان الرضيع في هذه المدة يكون صغيرا يكفيه اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءا من المرضعة.
فيشترك في الحرمة مع أولادها.
روى الدار قطني، وابن عدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا رضاع إلا في الحولين.
وروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم» رواه أبو داود.
وإنما يكون ذلك لمن هو في سن الحولين، ينمو باللبن عظمه، وينبت عليه لحمه.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام» رواه الترمذي وصححه.
وقال ابن القيم: هذا حديث منقطع.
ولو فطم الرضيع قبل الحولين واستغنى بالغذاء عن اللبن ثم أرضعته امرأة، فان ذلك الرضاع تثبت به الحرمة عند أبي حنيفة والشافعي، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الرضاعة من المجاعة».
وقال مالك: ما كان من الرضاعة بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الماء.
وقال: إذا فصل الصبي قبل الحولين، أو استغنى بالفطام عن الرضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للارضاع حرمة.

.رضاع الكبير:

وعلى هذا فرضاع الكبير لا يحرم في رأي جماهير العلماء للأدلة المتقدمة.
وذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه يحرم - ولو أنه شيخ كبير - كما يحرم رضاع الصغير، وهو رأي عائشة رضي الله عنها.
ويروى عن علي كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح وهو قول الليث ابن سعد، وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما رواه مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير بحديث: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت، وكانت تراه ابنا لها».
قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال.
فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
وروى مالك، وأحمد: أن أبا حذيفة تبنى سالما.
وهو مولى لامرأة من الانصار، كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا.
وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس ابنه وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم}.
فردوا الى آبائهم فمن لم يعلم له أب، فمولى وأخ في الدين، فجاء، سهلة.
فقالت: يارسول الله كنا نرى سالما ولدا يأوي معي ومع أبي حذيفة، ويراني فضلا، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه خمس رضعات»، فكان بمنزلة ولده من الرضاعة.
وعن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها قالت: قالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنها: إنه يدخل عليك الغلام الايفغ الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة رضيا لله عنها: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟.
فقالت: إن امرأة أن حذيفة قالت: يا رسول الله صلى أن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شئ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه حتى يدخل عليك».
والمختار من هذين القولين ما حققه ابن القيم.
قال: إن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص ولاعام في حق كل واحد، وإنما هو رخصة للحاجة، لمن لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة.
فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، والأحاديث النافية للرضاع في الكبير: إما مطلقة فتفيد بحديث سهلة، أو عامة في كل الاحوال فتخصص هذه الحال من عمومها.
وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص لشخص بعينه، وأقرب الى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له.
انتهى.
الشهادة على الرضاع:
شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع - إذا كانت مرضية - لما رواه عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: «قد أرضعتكما»، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: «وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟» فنهاه عنها.
احتج بهذا الحديث: طاووس، والزهري، وابن أبي ذئب، والاوزاعي، ورواية عن أحمد، على أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع.
وذهب الجمهور الى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة، لأنها شهادة على فعل نفسها.
وقد أخرج أبو عبيد عن عمر، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس انهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك.
فقال عمر رضي الله عنه: ففرق بينهما أن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته، إلا أن ينتزها.
ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين زوجين إلا فعلت.
ومذهب الأحناف أن الشهادة على الرضاع لابد فيها من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا يقبل فيها شهادة النساء وحدهن، لقول الله عزوجل: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}.
وروى البيهقي: أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأدة شهدت على رجل وامرأته أنها أرضعتهما، فقال: لا: حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
وعن الشافعي رضي الله عنه: أنه يثبت بهذا، وبشهادة أربع من النساء، لأن كل امرأتين كرجل، ولان النساء يطلعن على الرضاع غالبا كالولادة.
وعند مالك: تقبل فيه شهادة امرأتين بشرط فشو قولهما بذلك قبل الشهادة.
قال ابن رشد: وحمل بعضهم حديث عقبة بن الحارث على الندب جمعا بينه وبين الاصول، وهو أشبه، وهي رواية عن مالك.

.أبوة زوج الموضع للرضيع:

إذا أرضعت امرأة رضيعا صار زوجها أبا للرضيع وأخوه عما له، لما تقدم من حديث حذيفة، ولحديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ائذني لافلح أخي أبي القعيس فانه عمك».
وكانت امرأته أرضعت عائشة رضي الله عنها.
وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان أرضعت احداهما جارية والاخرى غلاما: أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ قال: لا اللقاح واحد.
وهذا رأي الائمة الأربعة: والاوزاعي، والثوري.
وممن قال به من الصحابة علي، وابن عباس رضي الله عنهما.

.التساهل في أمر الرضاع:

كثير من النساء يتساهل في أمر الرضاع فيرضعون الولد من امرأة، أو من عدة نسوة، دون عناية بمعرفة أولاد المرضعة وإخوانها، ولا أولاد زوجها - من غيرها - وإخوته، ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الاحكام، كحرمة النكاح، وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب.
فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته، أو عمته، أو خالته من الرضاعة، وهو لا يدري.
والواجب الاحتياط في هذا الأمر، حتى لا يقع الإنسان في المحظور.

.حكمة التحريم:

قال في تفسير المنار: إن الله تعالى جعل بين الناس ضروبا من الصلة يتراحمون بها، ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة.
فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الأولاد والوالدين من العاطفة والاريحية.
فمن اكتنه السر في عطف الاب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه الى العناية بتربيته الى أن يكون رجلا مثله.
فهو ينظر إليه كنظره الى بعض أعضائه، ويعتمد عليه في مستقبل أيامه، ويجد في نفس الولد شعورا بأن أباه كان منشأ وجوده، وممد حياته وقوام تأديبه، وعنوان شرفه.
وبهذا الشعور يحترم الابن أباه، وبتلك الرحمة والاريحية يعطف الاب على ابنه، وبساعده.
هذا ماقاله الاستاذ الإمام محمد عبده.
ولا يخفى على إنسان أن عاطفة الأم الوالدية أقوى من عاطفة الأب، ورحمتها أشد من رحمته، وحنانها أرسخ من حنانه، لأنها أرق قلبا، وأدق شعورا.
وأن الولد يتكون جنينا من دمها الذي هو قوام حياتها.
ثم يكون طفلا يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصة من ثديها عاطفة جديدة، يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحدا في الدنيا قبل أمه.
ثم انه يحب أباه، ولكن دون حبه لامه، وان كان يحترمه أشد مما يحترمها.
أفليس من الجنابة على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب استمتاع الشهوة - فيزحمه ويفسده - وهو خير ما في هذه الحياة!!
بلى: ولاجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الاشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات.
ولو لا ما عهد في الإنسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والافساد فيها، لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات، لأن فطرته تشعر أن النزوع الى ذلك من قبيل المستحيلات.
وأما الاخوة والاخوات، فالصلة بينهما تشبه الصلة بين الوالدين والأولاد من حيث أنهم كأعضاء الجسم الواحد، يفان الاخ والأخت من أصل واحد يستويان في النسة إليه من غير تفاوت بينهما.
ثم انهما ينشآن في حجر واحد، على طريقة واحدة في الغالب، وعاطفة الاخوة بينهما متكافئة، ليست أقوى في إحداهما منها في الاخرى، كقوة عاطفة الأمومة والابوة على عاطفة البنوة.
فلهذه الاسباب يكون أنس أحدهما بالآخر أنس مساواة لا يضاهيه أنس لآخر.
إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة، وعواطف الود والثقة المتبادلة.
ويحكى أن امرأة شفعت عند الحجاج في زوجها وابنها وأخيها، وكان يريد قتلهم، وفشفعها في واحد مبهم منهم، وأمرها أن تختار من يبقى، فاختارت أخاها، فسألها عن سبب ذلك فقالت: أن الأخ لا عوض عنه، وقد مات الوالدان، وأما الزوج والولد فيمكن الاعتياض عنهما بمثلهما.
فأعجبه هذا الجواب وعفا عن الثلاثة.
وقال: لو اختارت الزوجة غير الاخ لما أبقيت لها أحدا.
وجملة القول: إن صلة الاخوة صلة فطرية قوية، وأن الاخوة والاخوات لا يشتهي بعضهم التمتع ببعض، لأن عاطفة الاخوة تكون هي المسؤولية على النفس بحيث لا يبقى لسواها معها موضع ما سلمت الفطرة.
فقضت حكمة الشريعة بتحريم نكاح الأخت حتى يكون لمعتلي الفطرة منفذ لاستبدال داعية الشهوة بعاطفة الاخوة.
وأما العمات والخالات فهن من طينة الأب والأم وفي الحديث: «عم الرجل صنو أبيه».
أي هما كالصنوان يخرجان من أصل النخلة.
ولهذا المعنى - الذي كانت به صلة العمومة من صلة الابوة، وصلة الخؤولة من صلة الأمومة - قالوا: إن تحريم الجدات مندرج في تحريم الأمهات وداخل فيه، فكان من محاسن دين الفطرة المحافة على عاطفة صلة العمومة والخؤولة، والتراحم والتعاون بها، وأن لاتنزو الشهوة عليها، وذلك بتحريم نكاح العمات والخالات.
وأما بنات الاخ وبنات الاخت، فهما من الإنسان بمنزلة بناته، حيث أن أخاه وأخته كنفسه، وصاحب الفطرة السليمة يجد لهما هذه العاطفة يمن نفسه، وكذا صاحب الفطرة السقيمة، إلا أن عاطفة هذا تكون كفطرته في سقهما.
نعم إن عطف الرجل على بنته يكون أقوى لكونها بضعة منه، نمت وترعرعت بعنايته ورعايته.
وأنسه بأخيه وأخته يكون أقوى من أنسه ببناتهما لما تقدم.
وأما الفرق بين العمات والخالات، وبين بنات الاخوة والاخوات، فهو أن الحب لهؤلاء حب عطف وحنان، والحب لاولئك حب تكريم واحترام.
فهما - من حيث البعد عن مواقع الشهوة - متكافآن.
وانما قدم في النظم الكريم ذكر العمات والخالات، لأن الادلاء بهما من الآباء والأمهات، فصلتهما أشرف وأعلى من صلة الاخوة والاخوات.
هذه أنواع القرابة القريبة التي يتراحم الناس ويتعاطفون ويتوادون ويتعاونون بها وبما جعل الله لها في النفوس من الحب والحنان والعطف والاحترام! فحرم الله فيها النكاح لاجل أن تتوجه عاطفة الزوجية ومحبتها الى من ضعفت الصلة الطبيعية أو النسبة بينهم، كالغرباء والاجانب، والطبقات البعيدة من سلالة الاقارب، كأولاد الاعمام والعمات والاخوال والخالات.
وبذلك تتجدد بين البشر قرابة الصهر التي تكون في المودة والرحمة كقرابة النسب، فتتسع دائرة المحبة والرحمة بين الناس.
فهذه حكمة الشرع الروحية في محرمات القرابة.
ثم قال: إن هنالك حكمة جسدية حيوية عظيمة جدا.
وهي أن تزوج الاقارب بعضهم ببعض يكون سببا لضعف النسل.
فإذا تسلسلت واستمرت بتسلسل الضعف والضوى فيه إلى أن ينقطع، ولذلك سببان: أحدهما وهو الذي أشار إليه الفقهاء - أن قوة النسل تكون على قدر قوة داعية التناسل في الزوجين، وهي الشهوة.
وقد قالوا: إنها تكون ضعيفة بين الاقارب.
وجعلوا ذلك علة لكراهية تزوج بنات العم وبنات العمة، الى آخره.
وسبب ذلك، أن هذه الشهوة شعور في النفس، يزاحمه شعور عواطف القرابة المضاد له، فإما أن يزيله، وإما أن يزلزله ويضعفه.
والسبب الثاني يعرفه الاطباء، وإنما يظهر للعامة بمثال تقريبي معروف عند الفلاحين، وهو أن الأرض التي يتكرر زرع نوع واحد من الحبوب فيها، يضعف هذا الزرع فيها مرة بعد أخرى، الى أن ينقطع، لقلة المواد التي هي قوام غذائه، كثرة المواد الاخرى التي لا يتغذى منها، ومزاحمتها لغذائه أن يخلص له.
ولو زرع ذلك الحب في أرض أخرى وزرع في هذه الأرض نوع آخر من الحب لمناكل منهما.
بل ثبت عند الزراع أن اختلاف الصنف من النوع الواحد من أنواع البذار يفيد.
فإذا زرعوا حنطة في أرض، وأخذوا بذرا من غلتها فزرعوه في تلك الأرض يكون نموه ضعيفا وغلته قليلة.
وإذا أخذوا البذر من حنطة أخرى وزرعوه في تلك الأرض نفسها يكون أنمى وأزكى.
كذلك النساء حرث - كالأرض - يزرع فيهن الولد.
وطوائف الناس كأنواع البذار وأصنافه.
فينبغي أن يتزوج أفراد كل عشيرة من أخرى ليزكو الولد وينجب.
فان الولد يرث من مزاج أبويه ومادة أجسادهما، ويرث من أخلاقهما وصفاتهما الروحية وبياينهما في شيء من ذلك.
فالتوارث والتباين سنتان من سنن الخليقة، ينبغي أن تأخذ كل واحدة منهما حظها لاجل أن ترتقي السلائل البشرية ويتقارب الناس بعضهم من بعض، ويستمد بعضهم القوة والاستعداد من بعض، والتزوج من الاقربين ينافي ذلك.
فثبت بما تقدم كله أنه ضار بدنا ونفسا، مناف للفطرة، مخل بالروابط الاجتماعية، عائق لارتقاء البشر.
وقد ذكر الغزالي في الاحياء: أن الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة، ألا تكون من القرابة القريبة.
قال: فان الوليد يخلق ضاويا.
وأورد في ذلك حديث لا يصح.
ولكن روى ابراهيم الحربي في غريب الحديث أن عمر قال لآل السائب: «اغتربوا لا تضووا» أي تزوجوا الغرائب لئلا تجئ أولادكم نحافا ضعافا.
وعلل الغزالي ذلك بقوله: إن الشهوة إنما تنبعث بقوة الاحساس بالنظر أو اللمس وإنما يقوي الاحساس بالأمر الغريب الجديد.
فأما المعهود الذي دام النظر إليه، فإنه يضعف الحس عن تمام ادراكه والتأثر به، ولا ينبعث به الشهوة.
قال: وتعليله لا ينطبق على كل صورة، والعمدة ما قلنا.
حكمة التحريم بالرضاع:
وأما حكمة التحريم بالرضاعة، فمن رحمته تعالى بنا أن وسع لنا دائرة القرابة بإلحاق الرضاع بها، وأن بعض بدن الرضيع يتكون من لبن المرضع، وأنه بذلك يرث منها كما يرث ولدها الذي ولدته.